تفسير سورة الشمس والبلد والفجر والغاشية
سورة الشمس
افتتح -سبحانه- هذه السورة الكريمة, بالقسم
بكائنات عظيمة النفع, جليلة القدر, لها آثارها في حياة الناس والحيوان والنبات, ولها
دلالتها الواضحة على وحدانيته -تعالى- وكمال قدرته وبديع صنعه.
{ والشمس وضحاها {
أقسم الله بالشمس ونهارها وإشراقها ضحى.
لفظ الضحى في الأصل, يطلق على الوقت الذى
تنبسط فيه الشمس, ويمتد النهار.
{ والقمر إذا تلاها } وبالقمر إذا تبعها في الطلوع والأفول.
{ والنهار إذا جلاها } وبالنهار إذا جلى الظلمة وكشفها. وقال
اخرون: جلى النهار الشمس فأظهرها وكشفها للناظرين.
{ والليل إذا يغشاها } وبالليل عندما يغطي الأرض فيكون ما عليها مظلما. وقال
اخرون: يغشى الليل الشمس فيغطى ضوءها.
{ والسماء وما بناها } وبالسماء وبنائها المحكم.
ويحتمل أن تكون (ما) هاهنا مصدرية بمعنى:
والسماء وبنائها, ويحتمل أن تكون (من) بمعني: والسماء وبانيها.
{ والأرض وما طحاها } وبالأرض وبسطها.
{ ونفس وما سواها } وبكل نفس وإكمال الله خلقها لأداء مهمتها, أو خلقها سوية مستقيمة على
الفطرة القويمة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما من مولود
إلا يولد على الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه, كما تنتج البهيمة بهيمة
جمعاء, هل تحسون فيها من جدعاء).
{ فألهمها فجورها وتقواها } فبين لها طريق الشر وطريق الخير.
(الإِلهام) هو التعريف والإِفهام للشيء أو التمكين من فعله أو تركه.
(الفجور) فعل ما يؤدى إلى الخسران والشقاء.
(التقوى) هي الإِتيان بالأقوال والأفعال
التي ترضى الله تعالى وتصون الإِنسان من غضبه عز وجل.
قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل
الناس اليوم ويكدحون فيه, أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق؟ أو فيما يستقبلون
به مما أتاهم به نبيهم, وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم, ومضى عليهم, قال
فقال: أفلا يكون ظلما؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا, وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده, فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون, فقال لي: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر
عقلك, إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله, أرأيت
ما يعمل الناس اليوم, ويكدحون فيه, أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما
يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم, وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا, بل شيء قضي عليهم ومضى
فيهم, وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها)
كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم
(اللهم آت نفسي تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها).
{ قد أفلح من زكاها } قد فاز من طهرها من الذنوب ونماها بالخير.
(الفلاح) الظفر بالمطلوب.
(التزكية) التزود من الخير والطاعة.
{ وقد خاب من دساها } وقد خسر من أخفى نفسه في المعاصي.
(دساها) أصله دسسها من التدسيس, وهو إخفاء
الشيء.
{ كذبت ثمود بطغواها } كذبت ثمود نبيها ببلوغها الغاية في العصيان.
{ إذ انبعث أشقاها } إذ نهض أكثر
القبيلة شقاوة لعقر الناقة. وهو: قدار بن سالف.
(الانبعاث) هو الإسراع في الطاعة للباعث.
عن عبد الله بن زمعة قال (سمعت النبي صلى
الله عليه وسلم يوما يذكر الناقة والذي عقرها فقال "إذ انبعث أشقاها" انبعث
لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة).
عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (ألا أحدثكم بأشقى الناس رجلين أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك
يا علي على هذه حتى يبل منها هذه). يعني: يضربه على قرنه فتبتل لحيته.
{ فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها } فقال لهم رسول الله صالح عليه السلام: احذروا الناقة التي أرسلها الله إليكم
آية أن تمسوها بسوء, وأن تعتدوا على سقيها, فإن لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم.
إضافة (ناقة) إلى اسم الجلالة لأنها آية
جعلها الله على صدق رسالة صالح عليه السلام ولأن خروجها لهم كان خارقاً للعادة.
{ فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم
بذنبهم فسواها } فشق عليهم ذلك, فكذبوه فيما توعدهم به فنحروها, فأطبق عليهم ربهم
العقوبة بجرمهم, فجعلها عليهم على السواء فلم يفلت منهم أحد.
{ ولا يخاف عقباها } لا يخاف
الله من أحد تبعة.
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا جميعا من عباده
الصالحين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم.
سورة البلد
سورة (البلد) تسمى أيضا "لا أقسم"
من السور المكية الخالصة, وعلى ذلك سار المحققون من المفسرين, وعدد آياتها عشرون آية.
{ لا أقسم بهذا البلد } أقسم الله بهذا البلد الحرام, وهو (مكة).
{ وأنت حل بهذا البلد } أي حلال تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر ليس عليك ما على الناس فيه
من الإثم, وذلك يوم فتح مكة, وأحلها الله له ساعة من نهار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح, فتح مكة (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض, فهو حرام بحرمة الله إلى
يوم القيامة, وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي, ولم يحل لي إلا ساعة من نهار, فهو
حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة).
{ ووالد وما ولد } وأقسم بوالد البشرية وهو -آدم عليه السلام- وبذريته من بعده. وقيل: أقسم بكل والد وبكل مولود.
{ لقد خلقنا الإنسان في كبد } لقد خلقنا الإنسان في شدة وعناء من مكابدة الدنيا. وهذا جواب القسم.
{ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } أيظن بما جمعه من مال أن الله لن يقدر عليه. وقيل: أيظن هذا القوي بجلده وقوته, أن لن يقهره أحد ويغلبه, فالله غالبه وقاهره. والاستفهام للإِنكار والتوبيخ.
{ يقول أهلكت مالا لبدا } يقول متباهيا: أنفقت مالا كثيرا.
وسمى الله تعالى الإنفاق في الشهوات والمعاصي
إهلاكا: لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق, ولا يعود عليه من إنفاقه إلا الندم والخسار
والتعب والقلة.
والمال اللبد: هو المال الكثير الذى
تلبد والتصق بعضه ببعض لكثرته وهو جمع لبدة.
{ أيحسب أن لم يره أحد } أيظن
في فعله هذا أن الله عز وجل لا يراه, ولا يحاسبه على الصغير والكبير؟ والاستفهام إنكار
وتوبيخ.
عن أبو برزة الأسلمي قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ؟ وعن
علمه فيم فعل فيه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟ وعن جسمه فيم أبلاه ؟).
ثم ساق -سبحانه- بعد ذلك جانبا من مظاهر
نعمه, على هذا الإِنسان الجاهل والمغرور. والاستفهام هنا للتقرير.
{ ألم نجعل له عينين } ألم نجعل
له عينين يبصر بهما.
{ ولسانا وشفتين } ولسانا وشفتين
ينطق بها.
وذكر -سبحانه- اللسان وذكر معه الشفتين, للدلالة على أن النطق السليم, لا يتأتى إلا بوجودهما معا, فاللسان لا ينطق نطقا صحيحا
بدون الشفتين, وهما لا ينطقان بدونه.
{ وهديناه النجدين } وبينا له سبيلي الخير والشر؟
{ فلا اقتحم العقبة } فهلا تجاوز مشقة الآخرة بإنفاق ماله, فيأمن. وقيل: هي عقبة شديدة في النار
دون الجسر, فاقتحموها بطاعة الله. وقيل: هي جبل في جهنم.
(اقتحم) أي الدخول بشدة.
والعقبة في الأصل: الطريق الوعر في الجبل.
{ وما أدراك ما العقبة } وأي شيء أعلمك: ما مشقة الآخرة, وما يعين على تجاوزها؟.
والاستفهام هنا لتفخيم شأنها, والتهويل من أمرها, والتشويق
إلى معرفتها.
{ فك رقبة } ثم أخبر عن اقتحامها, إنه عتق رقبة مؤمنة من أسر الرق.
عن أبو هريرة, عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (من أعتق رقبة مؤمنة, ستره الله بكل عضو منها عضوا منه من النار).
{ أو إطعام في يوم ذي مسغبة } أو إطعام في يوم في مجاعة شديدة.
(المسغية) المجاعة.
{ يتيما ذا مقربة } يتيما من ذوي القرابة يجتمع فيه فضل الصدقة وصلة الرحم.
(اليتيم) هو الشخص الذى مات أبوه وهو صغير.
و(المقربة) قرابة النسب.
عن سلمان بن عامر الضبي قال, قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة).
{ أو مسكينا ذا متربة } أو فقيرا معدما لا شيء عنده.
قال ابن عباس: (ذا متربة) هو المطروح في
الطريق الذي لا بيت له, ولا شيء يقيه من التراب.
{ ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر
وتواصوا بالمرحمة } ثم كان مع فعل ما ذكر من أعمال الخير من
الذين أخلصوا الإيمان لله, وأوصى بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله والبعد عن معاصيه,
وتواصوا بالرحمة بالخلق.
وخص -سبحانه- من أوصاف المؤمنين تواصيهم
بالصبر, وتواصيهم بالمرحمة, لأن هاتين الصفتين على رأس الصفات الفاضلة بعد الإِيمان
بالله تعالى.
{ أولئك أصحاب الميمنة } الذين فعلوا هذه الأفعال, هم أصحاب اليمين, الذين يؤخذ بهم يوم القيامة
ذات اليمين إلى الجنة.
{ والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة } والذين كفروا بالقرآن هم الذين يؤخذ بهم
يوم القيامة ذات الشمال إلى النار.
{ عليهم نار مؤصدة } جزاؤهم جهنم مطبقة مغلقة عليهم.
تقول آصدت الباب وأوصدته: إذا أحكمت غلقه.
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من أصحاب
الميمنة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم.
سورة الفجر
سورة (الفجر) من السور المكية الخالصة,
بل هي من أوائل ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من سور القرآن, وعدد آياتها ثلاثون
آية.
وافتتح -سبحانه- السورة الكريمة بالقسم
بخمسة أشياء لها شرفها وعظمها, ولها فوائدها الدينية والدنيوية, ولها دلالتها الواضحة
على كمال قدرته تعالى.
{ والفجر } أقسم الله سبحانه بوقت الفجر, الذي هو آخر الليل ومقدمة النهار.
{ وليال عشر } والليالي العشر
الأول من ذي الحجة وما شرفت به.
عن عبد الله ابن عباس مرفوعا (ما من أيام
العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر "يعني عشر ذي
الحجة" قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ فقال: رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ولا الجهاد في سبيل الله, إلا رجلا خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء).
{ والشفع والوتر } وبكل شفع وفرد.
(الشفع) ما يكون ثانيا لغيره.
و(الوتر) هو الشيء المنفرد.
{ والليل إذا يسري } وبالليل إذا يسري بظلامه.
{ هل في ذلك قسم لذي حجر } أليس في الأقسام المذكورة مقنع لذي عقل؟.
والاستفهام للتقرير والتعظيم لما أقسم به من مخلوقات.
المراد بالحِجر: العقل, وسمى بذلك لأنه
يحجر صاحبه ويمنعه عن ارتكاب ما لا ينبغي, كما سمى عقلا, لأنه يعقِل صاحبه عن ارتكاب
السيئات.
{ ألم تر كيف فعل ربك بعاد } ألم تر-أيها الرسول- كيف فعل ربك بقوم عاد.
المراد بعاد: تلك القبيلة المشهورة بهذا
الاسم, والتي كانت تسكن الأحقاف, وهو مكان في جنوب الجزيرة العربية, معروف للعرب, وهؤلاء عاد الأولى, وهم أولاد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.
{ إرم ذات العماد } قبيلة إرم, ذات القوة والأبنية المرفوعة على الأعمدة.
المراد بذات العماد: لأنهم كانوا يسكنون
بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد.
{ التي لم يخلق مثلها في البلاد } التي لم يخلق مثلها في البلاد في عِظم الأجساد
وقوة البأس.
{ وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي } وكيف فعل بثمود قوم صالح الذين قطعوا الصخر
بالوادي واتخذوا منه بيوتا؟
(جابوا) أي قطعوا.
(بالواد) علم بالغلبة للمكان الذى كانوا
يسكنون فيه, ويسمى بوادي القرى. و"الواد" اسم للأرض المنخفضة بين مكانين
مرتفعين.
{ وفرعون ذي الأوتاد } وفرعون
ملك مصر صاحب الجنود الذين ثبتوا ملكه وقووا له
أمره. وقيل: كان يوتد الناس بالأوتاد. وقيل: كانت مظال وملاعب يلعب له تحتها.
{ الذين طغوا في البلاد } هؤلاء الذين استبدوا, وظلموا في بلاد الله. والوصف عائد الي عاد وثمود وفرعون.
(طغوا) أي تجاوزوا كل حد في العصيان والظلم.
{ فأكثروا فيها الفساد } فأكثروا فيها بظلمهم الفساد.
{ فصب عليهم ربك سوط عذاب } فصب عليهم ربك عذابا شديدا.
(الصب) هو إفراغ ما في الظرف, وهو هنا مستعار
لحلول العذاب دفعة وإحاطته بهم كما يصب الماء على المغتسِل أو يصب المطر على الأرض.
و(السوط) آلة تتخذ من الجلود القوية, يضرب
بها الجاني, وإضافتها إلى العذاب, من إضافة الصفة إلى الموصوف, أي كالسوط في سرعته, وشدته وتتابعه, فهو تشبيه بليغ.
{ إن ربك لبالمرصاد } إن ربك
-أيها الرسول- لبالمرصاد لمن يعصيه, يمهله قليلا ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
المرصاد في الأصل: اسم للمكان الذى يجلس
فيه الجالس لترقب أو رؤية شيء ما.
{ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه
فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمني } فأما الإنسان إذا ما اختبره ربه بالنعمة, وبسط له رزقه, وجعله في أطيب
عيش, فيظن أن ذلك لكرامته عند ربه, فيقول: ربي أكرمن.
{ وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه
فيقول ربي أهانني } وأما إذا ما اختبره, فضيق عليه رزقه, فيظن
أن ذلك لهوانه على الله, فيقول: ربي أهانن.
{ كلا بل لا تكرمون اليتيم } ليس الأمر كما يظن هذا الإنسان, بل الإكرام بطاعة الله, والإهانة بمعصيته,
وأنتم لا تكرمون اليتيم, ولا تحسنون معاملته.
(اليتيم) هو الذى مات أبوه وهو صغير.
عن سهل بن سعد الساعدي, عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين, وأشار
بأصبعيه يعني: السبابة والوسطى).
{ ولا تحاضون على طعام المسكين } ولا يحث بعضكم بعضا على إطعام المسكين.
{ وتأكلون التراث أكلا لما } وتأكلون حقوق الأخرين في الميراث أكلا شديدا.
{ وتحبون المال حبا جما } وتحبون المال حبا كثيرا مفرطا.
{ كلا إذا دكت الأرض دكا دكا } ما هكذا ينبغي أن يكون حالكم. فإذا زلزلت
الأرض وكسر بعضها بعضا.
{ وجاء ربك والملك صفا صفا } وجاء ربك لفصل القضاء بين خلقه, والملائكة صفوفا صفوفا.
(وجاء ربك) هذه الآية وأمثالها من آيات الصفات التي يرى السلف وجوب الإِيمان بها كما جاءت، بمعنى أننا نؤمن بمجيء الله تعالى ولكن من غير تكييف ولا تمثيل, بل نكل علم كيفية مجيئه إلى مشيئته تعالى. والخلف يؤولون ذلك بأن المجيء هنا بمعنى مجيء أمره وقضائه.
{ وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان
وأنى له الذكرى } وجيء في ذلك اليوم العظيم بجهنم, يومئذ
يتعظ الكافر ويتوب, ومن أين له الاتعاظ والتوبة, وقد فرط فيهما في الدنيا, وفات أوانهما؟
و(أنى) اسم استفهام بمعنى: أين له الذكرى, وهو استفهام مستعمل في الإِنكار والنفي.
عن عبد الله بن مسعود, عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام, مع كل زمام سبعون ألف ملك
يجرونها).
{ يقول يا ليتني قدمت لحياتي } يقول: يا ليتني قدمت في الدنيا من الأعمال
الصالحة ما ينفعني لحياتي في الآخرة.
وفي الآية دليل على أن الحياة التي ينبغي
السعي في أصلها وكمالها, وفي تتميم لذاتها, هي الحياة في دار القرار, فإنها دار الخلد
والبقاء.
عن محمد بن أبي عميرة, وكان من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم قال (لو أن رجلا خر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرما في طاعة
الله عز وجل لحقره ذلك اليوم, ولود أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب).
{ فيومئذ لا يعذب عذابه أحد } ففي ذلك اليوم العصيب لا يستطيع أحد ولا
يقدر أن يعذب مثل تعذيب الله من عصاه.
{ ولا يوثق وثاقه أحد } ولا يستطيع أحد أن يوثق مثل وثاق الله, ولا يبلغ أحد مبلغه في ذلك.
(الوثاق) الرباط الذى يقيد به الأسير.
{ يا أيتها النفس المطمئنة } يا أيتها النفس المطمئنة إلى ذكر الله والإيمان
به, وبما أعده من النعيم للمؤمنين.
(النفس المطمئنة) هي النفس الآمنة من الخوف أو الحزن في يوم القيامة, بسبب إيمانها الصادق, وعملها الصالح. والكلام على إرادة القول, أي: يقول الله تعالى على لسان ملائكته, إكراما للمؤمنين, عند وفاتهم أو عند تمام حسابهم.
{ ارجعي إلى ربك راضية مرضية } ارجعي إلى ربك وجواره راضية بإكرام الله
لك, والله سبحانه قد رضي عنك.
{ فادخلي في عبادي } فادخلي في
عداد عباد الله الصالحين.
{ وادخلي جنتي } وادخلي معهم جنتي. وإضافة (جنة) إلى ضمير الجلالة إضافة تشريف.
سبب النزول:
وقد ذكروا أن هذه الآيات الكريمة نزلت في شأن عثمان بن عفان لّما تصدق ببئر رومة. وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب حين استشهد. قال القرطبي: والصحيح أنها عامة في نفس كل مؤمن مخلص طائع.
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا جميعا من أصحاب
النفوس المطمئنة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم.
سورة الغاشية
سورة (الغاشية) وتسمى سورة "هل أتاك
حديث الغاشية" من السور المكية الخالصة, وعدد آياتها ست وعشرون آية.
{ هل أتاك حديث الغاشية } هل أتاك -أيها النبي- خبر القيامة التي تغشى الناس بأهوالها؟
عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و(هل أتاك حديث
الغاشية). قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد, يقرأ بهما أيضا في الصلاتين.
{ وجوه يومئذ خاشعة } وجوه الكفار يومئذ ذليلة بالعذاب.
(الخاشعة) الذليلة الخاضعة.
والمراد بالوجوه: أصحابها, من باب التعبير
عن الكل بالبعض, وخصت الوجوه بالذكر, لأنها أشرف أعضاء الإِنسان, ولأنها هي التي تظهر
عليها الآثار المختلفة من حزن أو فرح.
{ عاملة ناصبة } مجهدة بالعمل متعبة.
(عاملة) أي العمل الشاق المهين.
(ناصبة) أي التعب والإِعياء.
وفى هذه الصفات زيادة توبيخ لأهل النار, لأنهم لما تركوا في الدنيا الخشوع لله تعالى والعمل الصالح, وآثروا متع الدنيا على
ثواب الآخرة. كان جزاؤهم يوم القيامة, الإِذلال, والعمل الشاق المهين الذى لا تعقبه
راحة.
{ تصلى نارا حامية } تصيبها نار
شديدة الحر, أي قد أوقدت وأحميت المدة الطويلة, لإفادة
تجاوز حرها المقدار المعروف.
{ تسقى من عين آنية } تسقى من عين شديدة الحرارة, أي قد انتهى حرها وغليانها.
{ ليس لهم طعام إلا من ضريع } ليس لأصحاب النار طعام إلا من نبت ذي شوك
لاصق بالأرض, وهو من شر الطعام وأخبثه.
{ لا يسمن ولا يغني من جوع } لا يسمن بدن صاحبه من الهزال, ولا بسد جوعه ورمقه.
أن المقصود من الطعام أحد أمرين: إما أن
يسد جوع صاحبه ويزيل عنه ألمه, وإما أن يسمن بدنه من الهزال, وهذا الطعام ليس فيه شيء
من هذين الأمرين, بل هو طعام في غاية المرارة والنتن والخسة, نسأل الله العافية.
{ وجوه يومئذ ناعمة } وجوه المؤمنين يوم القيامة ذات نعمة, أي يعرف النعيم فيها وإنما حصل لها ذلك بسعيها.
{ لسعيها راضية } لسعيها في الدنيا بالطاعات راضية في الآخرة.
والمراد بالسعي: العمل الذى كان يعمله الإِنسان
في الدنيا, ويسعى به من أجل الحصول على رضا خالقه, وهو متعلق بقوله (راضية). وقدم عليه
للاعتناء بشأن هذا السعي.
{ في جنة عالية } في جنة رفيعة
المكان والمكانة.
وصفت الجنة بالعلو, للمبالغة في حسنها وفى
علو منزلتها, فقد جرت العادة أن تكون أحسن الجنات, ما كانت مرتفعة على غيرها.
{ لا تسمع فيها لاغية } لا تسمع فيها كلمة لغو واحدة. لأن أهل الجنة لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم
الدائم.
(اللغو) هو الكلام الساقط الذى لا فائدة
فيه.
{ فيها عين جارية } فيها عين تتدفق مياهها في غير أخدود.
عن أبي هريرة قال: قال النبي -صلى الله
عليه وسلم- (أنهار الجنة تخرج من تحت تلال -أو من تحت
جبال- المسك).
{ فيها سرر مرفوعة } فيها سرر عالية, ليرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما خوله
ربه من النعيم والملك فيها.
(السرر) جمع سرير, وهو الشيء ذو القوائم
المرتفعة الذى يتخذ للجلوس والاضطجاع.
{ وأكواب موضوعة } وأكواب معدة للشاربين.
(أكواب) جمع كوب, وهو إناء ليس له عروة ولا خرطوم.
{ ونمارق مصفوفة } ووسائد مصفوفة, الواحدة جنب الأخرى.
(النمارق) جمع نمرقة, وهى الوسادة الصغيرة
التي يتكئ عليها الجالس والمضجع.
{ وزرابي مبثوثة } وبسط كثيرة مفروشة ومتفرقة في كل مجلس.
(الزرابي) جمع زربية, وهى البساط الواسع
الفاخر.
(المبثوثة) المنتشرة على الأرض.
فأنت ترى أن الله -تعالى- قد وصف الجنة
التي أعدها -سبحانه- لعباده المتقين بعدد من الصفات الكريمة المتنوعة.
وصفها بأنها عالية في ذاتها, وبأنها خالية من الكلام الساقط, وبأن مياهها لا تنقطع, وبأن أثاثها في غاية الفخامة, حيث اجتمع فيها كل ما هو مريح ولذيذ. نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا جميعا من أهلها.
{ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } أفلا ينظر الكافرون المكذبون إلى (الإبل) كيف خلقت هذا الخلق العجيب؟.
المراد بالنظر: التدبر في تلك المخلوقات, فإن من شأن هذا التدبر, أنه يؤدى إلى الاعتبار والانتفاع.
وخص -سبحانه- الإِبل بالذكر من بين سائر
الحيوانات, لأنها أعز الأموال عند العرب, وأقربها إلى مألوفهم وحاجتهم, وأبدعها خلقا
وهيئة وتكوينا.
{ وإلى السماء كيف رفعت } وإلى السماء كيف رفعت هذا الرفع البديع بلا عمد؟.
{ وإلى الجبال كيف نصبت } وإلى الجبال كيف نصبت, فحصل بها الثبات للأرض والاستقرار؟.
(النصب) الرفع أي كيف رفعت وهي مع ارتفاعها
ثابتة راسخة لا تميل.
{ وإلى الأرض كيف سطحت } وإلى الأرض كيف بسطت ومدت ومهدت؟.
{ فذكر إنما أنت مذكر } فعظ -أيها الرسول- الناس بما أرسلت به إليهم, إنما أنت واعظ لهم.
والقصر المستفاد ب (إنما) قصر إضافي, أي
أنت مذكر لست وكيلاً على تحصيل تذكرهم فلا تتحرج من عدم تذكرهم فأنت غير مقصر في تذكيرهم
وهذا تطمين لنفسه الزكية.
{ لست عليهم بمصيطر } ليس عليك إكراههم على الإيمان.
(المصيطر) هو المتسلط، المتجبر.
{ إلا من تولى وكفر } حرف (إلا) للاستثناء المنقطع وهو بمعنى الاستدراك. لكن الذي أعرض عن التذكير والموعظة وأصر على كفره.
{ فيعذبه الله العذاب الأكبر } فيعذبه الله العذاب الشديد في النار.
{ إن إلينا إيابهم } إن إلينا مرجعهم بعد الموت.
{ ثم إن علينا حسابهم } ثم إن علينا جزاءهم على ما عملوا.
وصدر -سبحانه- الآيتين بحرف التأكيد (إن)
وعطف الثانية على الأولى بحرف (ثم) المفيد للتراخي في الرتبة, وقدم خبر (إن) في الجلمتين
على اسمها. لإِفادة التهديد والوعيد, وتأكيد أن رجوعهم إليه -تعالى- أمر لا شك فيه.
وإن حسابهم يوم القيامة سيكون حسابا عسيرا, لأنه صادر عمن لا تخفى عليه خافية في الأرض
ولا في السماء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
صفحتي في تويتر لمزيد من المتابعة
تفسير سورة العلق والتين والشرح والضحى والليل
تعليقات
إرسال تعليق